رسالة
أهل السنة والجماعة في حديث الموتى وأشراط الساعة وبيان مفهوم أهل السنة والجماعة
تأليف
العلامة
الشيخ محمد هاشم أشعرى الرئيس
الأكبر لجمعية نهضة العلماء
عفا
الله عنه وعن والديه وعن مشايخه وعن جميع المسلمين
آمين
مقدمة
وتمهيد
بسم
الله الرحمن الرحيم
حمدا وتمجيدا لمن قال في كتابه المبين, وهو أصدق القائلين, (هُوَ
الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ), صلاة وتسليما على سيدنا وشفيعنا
ووسيلتنا إلى ربنا محمد القائل: {أمَّا بَعْدُ, فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثَ
كِتَابُ اللّهِ, وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمّدٍ, وَشَرّ الأُمُورِ
مُحْدَثَاتُهَا, وَكُلّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ, وَكُلّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ,وَكُلّ
ضَلاَلَةٍ فِي النّارِ},
وعلى آله وأصحابه وأتباعه, صلاة وسلاما دائمين متلازمين ما اختلف الليل والنهار.
وبعد, فهذا كتاب جليل يحتوي على مقاصد مفيدة ومباحث عديدة, تنفع المسلمين
المحتاجين إلى تحقيق العقائد الدينية, وإلى الإجتماع بالفرقة الناجية الذين هم أهل
اسنة والجماعة, رد فيه مؤلفه على ضلالات المبتدعين الكاذبين, وصرح فيه شبهات
الملحدين الضالين.
فهو إذًا حجة وبرهان, وتوضيح وبيان, فيه للمسلمين عزة وكرامة, ولهم فيه نجاة
وسلامة, إذ حقق فيه مؤلفه العقائد الصحيحة على طريقة أهل السنة والجماعة.
ومعشر المسلمين اليوم أشد حاجة إلى ذلك, وقد اختلط فيهم الأفاضل بالأراذل, والتبس
عليهم الحق بالباطل, وتصدر للفتوى كل جاهل, ممن يقصر إدراكه عن فهم كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه
وسلم, فجاء الكتاب بالإيضاح والتدقيق, بعيدا عن التلبيس والتزويق, ليبتعدوا عن
مواقع الجهل والضلال, ويكونوا موفقين في الأقوال والأفعال.
وكيف لا, وقد كان مؤلفه العلامة الشيخ محمد هاشم أشعري رحمه الله تعالى من أكابر
علماء إندونيسيا ومن مؤسسى جمعية نهضة العلماء, وهي جمعية معروفة بقوة تمسكهم بسنة
خاتم النبيين وشدة اعتمادهم على خطة أسلافهم الصالحين.
فجزى الله تالى مؤلفه خيرا كثيرا, وغفر له ولأصوله وفروعه إنه كان غفارا, ونفع به
وبعلومه المسلمين, وجعل عمله من إحياء سنة سيد المرسلين. هذا, وصلى الله على سيدنا
مجمد وعلى آله وصحبه وسلم, والحمد لله رب العالمين.
تبوئرنج, 1 رجب 1418
كتبه
سبط المؤلف
محمد
عصام حاذق
بسم الله
الرحمن الرحيم
الحمد لله شكرا على نواله, والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله. وبعد, فهذا كتاب
أودعت فيه شيئا من حديث الموتى و أشراط الساعة, وشيئا من الكلام على بيان السنة
والبدعة, وشيئا من الأحاديث بقصد النصيحة, وإلى الله الكريم أمد أكف الإبتهال, أن
ينفع به نفسي وأمثالي من الجهال, وأن يجعل عملي خالصا لوجهه الكريم, انه جواد رؤوف
رحيم. وهذا أوان الشروع في المقصود, بعون الملك المعبود.
(فصل) في
بيان السنة والبدعة
السنة بالضم والتشديد كما قال أبو البقاء في كلياته: لغة الطريقة ولو غير مرضية.
وشرعل اسم للطريقة المرضية المسلوكة في الدين سلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم
أو غيره ممن هو علم في الدين كالصحابة رضي الله عنهم لقوله صلى الله عليه وسلم:
{عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِيْ وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَاشِدِيْنَ مِنْ بَعْدِيْ}.
وعرفا ما واظب عليه مقتدي نبيا كان أو وليا. والسني منسوب إلى السنة حذف التاء
للنسبة.
والبدعة كما قال الشيخ زروق في عدة المريد: شرعا إحداث أمر في الدين يشبه أن يكون
منه وليس منه سواء كان بالصورة أو بالحقيقة لقوله صلى الله عليه وسلم: {مَنْ
أحْدَثَ في أمْرِنَا هَذَا ما لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ}, وقوله صلى الله عليه
وسلم: {وَكُلّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ}. وقد بين العلماء رحمهم الله أن المعنى في
الحديثين المذكورين راجع لتغيير الحكم باعتقاد ما ليس بقربة قربةً لا مطلق الإحداث,
إذ قد تناولته الشريعة بأصولها فيكون راجعا إليها أو بفروعها فيكون مقيسا عليها.
قال: وموازينها ثلاثة:
(الأول) أن ينظر في الأمر المحدث, فإن شهد له معظم الشريعة وأصلها
فليس ببدعة, وإن كان مما يأبى ذلك بكل وجه فهو باطل وضلال, وإن كان مما تراجعت فيه
الأدلة وتناولته الشبهة واستوت فيه الوجوه اعتبرت وجوهه, فما ترجح من ذلك رجعت
إليه.
(الميزان الثاني) اعتبار قواعد الأئمة وسلف الأمة العاملين بطريق السنة, فما
خالفها بكل وجه فلا عبرة به, وما وافق أصولهم فهو حق وإن اختلفوا فيه فرعا وأصلا, فكل يتبع أصله ودليله, وقد وقع من قواعدهم أن ما
عمل به السلف وتبعهم الخلف لا يصح أن يكون بدعة ولا مذموما, وما تركوه بكل وجه
واضح لا يصح أن يكون سنة ولا محمودا, وما أثبتوا أصله ولم يرد عنهم فعله فقال مالك
بدعة لأنهم لم يتركوه إلا لأمر عندهم فيه. وقال الشافعي ليس ببدعة وإن لم يعمل به
السلف لأن تركهم للعمل به قد يكون لعذر قام بهم في الوقت أو لما هو أفضل منه,
والأحكام مأخوذة من الشارع وقد أثبته. واختلفوا أيضا فيما لم يرد له من السنة
معارض ولا شبهة, فقال مالك بدعة, وقال الشافعي ليس ببدعة, واستند لحديث {مَا تَرَكْتُهُ لَكُمْ فَهُوَ عَفْوٌ}, قال
وعلى هذا اختلافهم في ضرب الإدارة والذكر بالجهر والجمع والدعاء, إذ ورد في الحديث
الترغيب فيه ولم يرد عن السلف فعله. ثم كل قائل لا يكون مبتدعا عند القائل بمقابله
لحكمه بما أداه اجتهاده الذي لا يجوز تعديه, ولا يصح له القول ببطلان مقابله لقيام
شبهته, ولو قيل بذلك لأدى إلى تبديع الأمة كلها, وقد عرف أن حكم الله تعالى في
مجتهد الفروع ما أداه إليه اجتهاده, سواء قلنا المصيب واحد أو متعدد, وقد قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: {لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاّ فِي بَنِي
قُرَيْظَةَ فَأَدْرَكَهُمْ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ, فَقَالَ بَعْضُهُمْ:
أُمِرْنَا بِالعَجَلَةِ, وَصَلُّوْا فِيْ الطَرِيْقِ, وَقَالَ آخَرُوْنَ أُمِرْنَا
بِالصَلاَةِ هُنَاكَ, فَأَخَّرُوْا, وَلَمْ يعب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَىْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ}, فدل ذلك على صحة العمل بما فهم من الشارع إذا لم يكن عن
هوى.
(الميزان الثالث) ميزان التمييز بشواهد الأحكام وهو تفصيلي ينقسم إلى أقسام
الشريعة الستة, أعنى الوجوب والندب والتحريم والكراهة وخلاف الأولى والإباحة, فكل
ما انحاز لأصل بوجه صحيح واضح لا بعد فيه الحق به, وما لا فهو بدعة. وعلى هذا
الميزان جرى كثير من المحققين واعتبرها من حيث اللغة للتقريب. والله أعلم.
ثم قال: وأقسامها ثلاثة, البدع الصريحة, وهي ما أثبتت من غير أصل شرعي في مقابلة
ما ثبت شرعا من واجب أو سنة أو مندوب أو غيره فأماتت سنة أو أبطلت حقا, وهذه شر
البدع, وإن كان لها ألف مستند من الأصول أو الفروع فلا عبرة به. الثاني البدع
الإضافية, وهي التي لأمر لو سلم منها لم تصح المنازعة في كونه سنة أو غير بدعة بلا
خلاف أو على خلاف مما تقدم. الثالث البدع الخلافية, وهي المبنية على أصلين
يتجاذبها كل منهما, فمن قال بهذا قال: بدعة, ومن قال بمقابله قال: سنة, كما تقدم
في ضرب الإدارة وذكر الجماعة.
وقال العلامة محمد ولي الدين الشبشيري في شرح الأربعين النووية على قوله صلى الله
عليه وسلم: {مَنْ أحْدَثَ حَدَثاً أوْ آوَى مُحْدِثاً فَعَلَيْهِ لَعْنَة الله}
ودخل في الحديث العقود الفاسدة, والحكم مع الجهل والجور ونحو ذلك مما لا يوافق
الشرع. وخرج عنه ما لا يخرج عن دليل الشرع, كالمسائل الإجتهادية التي ليس بينها
وبين أدلتها رابط إلا ظن المجتهد, وكتابة المصحف وتحرير المذاهب وكتب النحو والحساب, ولذا قسم ابن عبد السلام
الحوادث إلى الأحكام الخمسة, فقال: البدعة فعل ما لم يعهد في عصر رسول الله صلى
الله عليه وسلم واجبة كتعلم النحو وغريب الكتاب والسنة مما يتوقف فهم الشريعة عليه,
ومحرّمة كمذهب القدرية والجبرية والمجسمة, ومندوبة كإحداث الربط والمدارس وكل
إحسان لم يعهد في العصر الأول, ومكروهة كزخزفة المساجد وتزويق المصاحف, ومباحة
كالمصافحة عقب صلاة الصبح والعصر والتوسع في المأكل والمشرب والملبس وغير ذلك.
وإذا عرفت ما ذكر تعلم أن ما قيل: إنه بدعة كاتخاذ السبحة, والتلفظ بالنية,
والتهليل عند التصدق عن الميت مع عدم المانع عنه, وزيارة القبور, ونحو ذلك ليس
ببدعة. وإن ما أحدث من أخذ أموال الناس بالأسواق الليلية, واللعب بالكورة وغير ذلك
من شر البدع.
(فصل)
في بيان تمسك أهل جاوى بمذهب أهل السنة والجماعة, وبيان ابتداء ظهور البدع
وانتشارها في أرض جاوى, وبيان أنواع المبتدعين الموجودين في هذا الزمان.
قد كان مسلموا الأقطار الجاوية في الأزمان السالفة الخالية متفقى الآراء والمذهب,
متحدى المأخذ والمشرب, فكلهم في الفقه على المذهب النفيس مذهب الإمام محمد بن
إدريس, وفي أصول الدين على مذهب الإمام أبي الحسن الأشعري, وفي التصوف على مذهب
الإمام الغزالي والإمام أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنهم أجمعين.
ثم إنه حدث في عام ألف وثلاثمائة وثلاثين أحزاب متنوعة, وآراء متدافعة, وأقوال
متضاربة, ورجال متجاذبة. فمنهم سلفيون قائمون على ما عليه أسلافهم من التمذهب
بالمذهب المعين والتمسك بالكتب المعتبرة المتداولة, ومحبة أهل البيت والأولياء
والصالحين, والتبرك بهم أحياء وأمواتا, وزيارة القبور, وتلقين الميت, والصدقة عنه,
واعتقاد الشفاعة ونفع الدعاء والتوسل وغير ذلك.
ومنهم فرقة يتبعون رأي محمد عبده ورشيد رضا, ويأخذون من بدعة محمد بن عبد الوهاب
النجدي, وأحمد بن تيمية وتلميذيه ابن اقيم وابن عبد الهادى, فحرموا ما أجمع
المسلمون على ندبه, وهو السفر لزيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم, والفوهم
فيما ذكر وغيره. قال ابن تيمية في فتاويه: وإذا سافر لاعتقاده أنها أي زيارة قبر
النبي صلى الله عليه وسلم طاعة كان ذلك محرما بإجماع المسلمين فصار التحريم من
الأمور المقطوع به. قال العلامة الشيخ محمد بخيت الحنفي المطيعي في رسالته المسماة
“تطهير الفؤاد من دنس الإعتقاد”: وهذا الفريق قد ابتلي المسلمون بكثير منهم سلفا
وخلفا, فكانوا وصمة وثلمة في المسلمين وعضوا فاسدا يجب قطعه حتى لا يعدى الباقي,
فهو كالمجذوم يجب الفرار منه, فإنهم فريق يلعبون بدينهم, يذمون العلماء سلفا وخلفا,
ويقولون إنهم غير معصومين فلا ينبغي تقليدهم, لا فرق في ذلك بين الأحياء والأموات,
ويطعنون عليهم ويلقون الشبهات, ويذرونها في عيون بصائر الضعفاء لتعمى أبصارهم عن
عيوب هؤلاء, يقصدون بذلك إلقاء العداوة والبغضاء بحلولهم الجو ويسعون في الأرض
فسادا, يقولون على الله الكذب وهم يعلمون, يزعمون أنهم قائمون بالأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر, حاضون الناس على اتباع الشرع واجتناب البدع, والله يشهد أنهم
لكاذبون. قلت: ولعل وجهه أنهم من أهل البدع والأهواء. قال القاضي عياض في الشفا:
وكان معظم فسادهم على الدين وقد يدخل في أمور الدنيا بما يلقون بين المسلمين من
العداوة الدينية التي تسرى لدنياهم. قال العلامة ملا على القارى في شرحه: وقد حرم
الله تعالى الخمر والميسر لهذه العلة كما قال تعالى {إِنَّمَا يُرِيدُ
الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ }.
ومنهم رافضيون يسبون سيدنا أبا يكر وعمر رضي الله عنهما ويكرهون الصحابة رضي الله
عنهم ويبالغون هوى سيدنا علي وأهل بيته رضوان الله عليهم. قال السيد محمد في شرح
القاموس: وبعضهم يرتقي إلى الكفر والزندقة أعاذنا الله والمسلمين منها. قال القاضي
عياض في الشفا: عن عبد الله بن مغفّل رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللّهِ صلى الله
عليه وسلم: {اللّهَ اللّهَ في أَصْحَابِي اللّهَ اللّهَ في أَصْحَابِي, لا
تَتّخِذوهُمْ غَرَضاً بَعْدِي, فَمَنْ أَحَبّهُمْ فَبِحُبّي أَحَبّهُمْ, وَمَنْ
أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ, وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي, وَمَنْ
آذَانِي فَقَدْ آذَى اللّهَ, وَمَنْ آذَى اللّهَ يُوْشِكُ أَنْ يَأْخُذَه}, وقال
رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: {لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي, فَمَنْ سَبَّهُمْ
فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَاسِ أَجْمَعِيْنَ, لاَ يَقْبَلُ
اللهُ مِنْهُ صَرْفاً ولاَ عَدْلاً}, وقال صلى الله عليه وسلم: {لاَ تَسُبُّوا
أَصْحَابِي, فإنهُ يَجِىْءُ قَوْمٌ فِيْ آخِرِ الزَمَانِ يَسُبُّوْنَ أَصْحَابِيْ,
فَلاَ تُصَلوّا عَلَيْهِمْ, وَلاَ تُصَلَوّا مَعَهُمْ, وَلاَ تناكِحُوْهُمْ, وَلاَ
تُجَالِسُوْهُمْ, وَإِنْ مَرِضُوْا فَلاَ تَعُوْدُوْهُم }, وعنه صلى الله عليه
وسلم: {مَنْ سَبَّ أَصْحَابِيْ فَاضْرِبُوْه}, وقد أعلم النبي صلى الله عليه وسلم
أن سبهم وأذاهم يؤذيه, وآذى النبي صلى الله عليه وسلم حرام, فقال: {لاَ تُؤْذُوْني
فِيْ أَصْحَابِيْ, وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِيْ}, وقال: {لا تؤذوني في عائشة},
وقال في فاطمة رضي الله عنها: {بضعة مني, يؤذيني ما آذاها}.
ومنهم إباحيون يقولون: إن العبد إذا بلغ غاية لبمحبة وصفا قلبه من الغفلة, واختار
الإيمان على الكفر والكفران سقط عنه الأمر والنهي, ولا يدخله الله النار بارتكاب
الكبائر. وبعضهم يقول: إنه تسقط عنه العبادات الظاهرة وتكون عبادته التفكر وتحسين
الأخلاق الباطنة. قال السيد محمد في شرح الإحياء: وهذا كفر وزندقة وضلالة, ولكن
الإباحيون موجودون من قديم الزمان, جهال ضلال ليس لهم رأس يعلم العلم الشرعي كما
ينبغي.
ومنهم من قال بتنلسخ الأرواح وانتقالها أبد الآباد في الأشخاص تخرج من بدن الآخر
من جنسه أو غيره.
وزعم هؤلاء أن تعذيبها وتنعيمها فيها بحسب زكائها وخبثها. قال الشهاب الخفاجي في
شرحه على الشفا: وقد كفرهم أهل الشرع لما فيه من تكذيب الله ورسوله وكتبه.
ومنهم من قال بالحلول والإتحاد, وهم جهلة المتصوفة, يقولون: إنه تعالى الوجود
المطلق, وإن غيره لا يتصف بالوجود أصلا, حتى إذا قالوا: الإنسان موجود, فمعناه أن
له تعلقا بالوجود المطلق, وهو الله تعالى. قال العلامة الأمير في حاشية عبد
السلام: وهو كفر صريح, ولا حلول ولا اتحاد, فإن وقع من أكابر الأولياء ما يوهم ذلك
أوّل بما يناسبه كما يقع منهم في وحدة الوجود, كقول بعضهم: “ما في الجبة إلا الله”,
أراد أن ما في الجبة, بل والكون كله
لا وجود له إلا بالله. وقال في لواقح الأنوار: من كمال العرفان شهود عبد و ربّ,
وكل عارف نفى شهود العبد في وقت ما فليس هو بعارف, وإنما هو في ذلك الوقت صاحب حال,
وصاحب الحال سكران لا تحقيق عنده, فظهر مما ذكر أن المراد بوحدة الوجود والإتحاد
في مذهب القوم ليس على الظاهر المتوهم. وإذا كانت عبدة الأوثان يقولون: “ما نعبدهم
إلا ليقرّبونا إلى الله زُلْفَى”, ولم يقولوا: “هم الله”, كيف يظن ذلك بالعارفين,
وإنما المراد قول العارف:
وعلمك أن كل الأمر أمري >< هو المعنى المسمى باتحاد
ولا بد عند كل مسلم من حظ في هذا المقام وإن تفاوتوا. وإنما أطلت
الكلام على هذه الطائفة لأن ضررهم على المسلمين أكثر من ضرر جميع الكفرة
والميتدعين, فإن كثيرا من الناس يعظمونهم ويسمعون كلامهم مع جهلهم بأساليب الكلام
العربي. وقد روى الأصمعي عن الخليل عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: أكثر من تزندق
بالعراق لجهلهم بالعربية, وهم باعتقادهم الحلول والإتحاد كفرة.
قال القاضي العياض في الشفاء: إن كل مقالة صرحت بنفي الربوبية أو الوحدانية أو
عبادة غير الله أو مع الله فهي كفر, كمقالة الدهرية والنصارى والمجوسي والذين
أشركوا بعبادة الأوثان أو الملائكة أو الشياطين أو الشمس أو النجوم أو النار أو
أحدٍ غير الله. وكذلك أصحاب الحلول والتناسخ, وكذلك من اعترف بإلهية الله
ووحدلنيته ولكنه اعتقد أنه غير حيّ أو غير قديم أو أنه محدث أو مصوّر أو ادعى له
ولدا أو صاحبة أو أنه متولد من شيئ أو كائن عنه أو أن معه في الأزل شيئا قديما
غيره أو أن ثَمَّ صانعا للعالَم سواه أو مدبرا غيره, فذلك كله كفر بإجماع المسلمين.
وكذلك من ادعى مجالسة الله تعالى والعروج إليه ومكالمته أو حلوله في أحد الأشخاص,
كقول بعض المتصوفة والباطنية والنصارى. وكذلك نقطع على كفر من قال بقدم العالم أو
بقائه أو قال بتناسخ الأرواح وانتقالها أبد الآباد في الأشخاص وتعذيبخا وتنعيمها بحسب زكائها وخبثها. وكذلك من اعترف بالإلهية والوحدانية
ولكنه جحد النبوة من أصلها عموما أو نبوة نبينا خصوصا أو أحدا من الأنبياء الذين
نص الله عليهم بعد علمه بذلك فهو كافر بلا ريب. وكذلك من قال: إن نبينا ليس الذي كان بمكة والحجاز. وكذلك من ادعى
نبوة أحد مع نبينا صلى الله عليه وسلم أو بعده أو من ادعى النبوة لنفسه. وكذلك من
ادعى من غلاة المتصوفة أنه يوحى إليه وإن لم يدع النبوة. قال في الأنوار: ويقطع
بتكفير كل قائل قولا يتوصل به إلى تضليل الأمة وتكفير الصحابة, وكل فاعل فعلا لا
يصدر إلا من كافر كالسجود للصليب أو النار, أو المشي إلى الكنائس مع أهلها بزيهم
من الزنانير وغيرها. وكذا من أنكر مكة أو الكعبة أو المسجد الحرام إن كان ممن يظن
به علم ذلك وممن خالط المسلمين.
(فصل)
في بيان خطة السلف الصالح, وبيان المراد بالسواد الأعظم
في
هذا الحين, وبيان أهمية الإعتماد بأحد المذاهب الأربعة
إذا فهمت ما ذكر علمت أن الحق مع السلفيين الذين كانوا على خطة السلف الصالح,
فإنهم السواد الأعظم, وهم الموافقون علماء الحرمين الشريفين وعلماء الأزهر الشريف
الذين هم قدوة رهط أهل الحق وفيهم علماء لا يمكن استقصاء جميعهم من انتشارهم في
الأقطار والآفاق كما لا يمكن إحصاء نجوم السماء. وقد قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: {إن الله تعالى لا يجمع أمتي على ضلالة, ويد الله على الجماعة, من شذَّ شذَّ
إلى النار} رواه الترمذي. زاد ابن ماجه: {فإذَا وَقَعَ الإِخْتِلاَفَ فَعَلَيْكَ
بِالسَّوَادِ الأَعْظَم} مع الحق وأهله. وفي الجامع الصغير: {إن الله تعالى قد
أجار أمتي أن تجتمع على ضلالة}.
وأكثرهم أهل المذاهب الأربعة, فكان الإمام البخاري شافعيا, أخذ عن الحميدي
والزعفراني والكرابيسي. وكذلك ابن خزيمة والنسائي. وكان الإمام الجنيد ثوريا,
والشبلي مالكيا, والمحاسبي شافعيا, والجريري حنفيا, والجيلاني حنبليا, والشاذلي
مالكيا, فالتقيد بمذهب معين أجمع للحقيقة, وأقرب للتبصر, وأدعى للتحقيق, وأسهل
تناولا. وعلى هذا درج الأسلاف الصالحون, والشيوخ الماضون رضوان الله تعالى عليهم
أجمعين.
فنحن نحض إخواننا عوام المسلمين أن يتقوا الله حق تقاته, وأن لا يموتوا إلا وهم
مسلمون, وأن يصلحوا ذات البين منهم, وأن يصلو الأرحام, وأن يحسنوا إلى الجيران
والأقارب والإخوان, وأن يعرفوا حق الأكابر, وأن يرحموا الضعفاء والأصاغر. وننهاهم
عن التدابر والتباغض والتقاطع والتحاسد والإفتراق والتلون في الدين, ونحثهم أن
يكونوا إخوانا, وعلى الخير أعوانا, وأن يعتصموا بحبل الله جميعا, وأن لا يتفرقوا,
وأن يتبعوا الكتاب والسنة وما كان عليه علماء الأمة كالإمام أبي حنيفة ومالك بن
أنس والشافعي وأحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنهن أجمعين, فهم الذين قد انعقد
الإجماع على امتناع الخروج عن مذاهبهم, وأن يعرضوا عما أحدث من الجمعية المخالفة لما عليه الأسلاف الصالحون, فقد قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مَنْ شَذَّ شَذَّ إِلىَ النَّارِ}, وأن يكونوا مع
الجماعة التي على طريقة الأسلاف الصالحين, فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
{وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ أَمَرَنِي الله بِهِنّ: السّمْعِ وَالطَاعَةِ
وَالْجِهَاد وَالْهِجْرَةِ وَالْجَمَاعَةِ, فَإِنّ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ
قِيْدَ شِبْرٍ, فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلاَمِ مِنْ عُنُقِهِ}, وقال عمر بن
الخطاب رضي الله عنه: {عَلَيْكُمْ بِالْجَماعَةِ, وَإِيّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ,
فَإِنّ الشّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مَعَ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ. وَمَنْ
أَرَادَ بُحْبُوبَةَ الْجَنّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَماعَةَ}.
(فصل)
في بيان وجوب التقليد لمن ليس له أهلية الإجتهاد
يجب عند جمهور العلماء المحققين على كل من ليس له أهلية الإجتهاد المطلق, وإن كان
قد حصل بعض العلوم المعتبرة في الإجتهاد تقليدُ قول المجتهدين والأخذ بفتواهم
ليخرج عن عهدة التكليف بتقليد أيهم شاء لقوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ
إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}, فأوجب السؤال على من لم يعلم ذلك, وذلك تقليد
لعالم, وهو عام لكل المخاطبين, ويجب أن يكون عاما في السؤال عن كل ما لا يعلم
للإجماع على أن العامة لم تزل في زمن الصحابة والتابعين وكل حدوث المخالفين
يستفتون المجتهدين و يتبعونهم في الأحكام الشرعية والعلماء, فإنهم يبادرون إلى
إجابة سؤالهم من غير إشارة إلى ذكر الدليل, ولا ينهونهم عن ذلك من غير نكير, فكان
إجماعا على اتباع العامى للمجتهد, ولأن فهم العامى من الكتاب والسنة ساقط عن حيز
الإعتبار, إن لم يوافق أفهام علماء أهل الحق الأكابر الأخيار, فإن كل مبتدع وضال
يفهم أحكامه الباطلة من الكتاب والسنة ويأخذ منهما والحال أنه لا يغنى من الحق
شيئا.
ولا يجب على العامى إلتزام مذهب في كل حادثة, ولو التزم مذهبا معينا كمذهب الشافعي
رحمه الله تعالى لا يجب عليه الإستمرار, بل يجوز له الإنتقال إلى غير مذهبه.
والعامى الذي لم يكن له نظر واستدلال ولم يقرأ كتابا في فروع المذهب إذا قال: أنا
شافعي, لم يعتبر هذا كذلك بمجرد القول, وقيل: إذا التزم العامي مذهبا معينا يلزمه
الإستمرار عليه لأنه إعتقد أن المذهب الذي انتسب إليه هو الحق, فعليه الوفاء بموجب
اعتقاده. وللمقلد تقليد غير إمامه في حادثة, فله أن يقلد إماما في صلاة الظهر مثلا
ويقلد إماما آخر في صلاو العصر. والتقليد بعد العمل جائز, فلو صلى شافعي ظن صحة
صلاته على مذهبه ثم تبين بطلانها في مذهبه وصحتها على مذهب غيره فله تقليده ويكتفي
بتلك الصلاة.
(فصل)
في لزوم الإختياط في أخذ الدين وأخذ العلم والإنذار
عن
فتنة أهل البدع والمنافقين والأئمة المضلين
يلزم الإختياط في أخذ العلم, فلا يأخذ عن غير أهله. روي ابن عساكر عن
الإمام مالك رضي الله عنه: {لاتحمل العلم عن أهل البدع, ولا تحمله عمن لم يعرف
بالطلب, ولا عمن يكذب في حديث الناس وإن كان لا يكذب في حديث رسول اللّه صلى اللّه
عليه وسلم}. وروى ابن سيرين رحمه الله: {هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ, فَانْظُرُوا
عَمّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ}. وروى الديلمي عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا:
{العلم دين, والصلاة دين, فانظروا عمن تأخذون هذا العلم, وكيف تصلون هذه الصلاة,
فإنكم تسألون يوم القيامة}, فلا ترووه إلا عمن تحققت أهليته, بأن يكون من العدول
الثقات المتقنين. وروى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
{سَيَكُونُ فِي آخِرِ أُمّتِي أُنَاسٌ يُحَدّثُونَكُمْ مَا لَمْ تَسْمَعُوا
أَنْتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ, فَإِيّاكُمْ وَإِيّاهُم}. وفي صحيح مسلم أيضا أن أبا
هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَكُونُ فِي آخِرِ
الزّمَانِ دَجّالُونَ كَذّابُونَ, يَأْتُونَكُمْ مِنَ الأَحَادِيثِ بِمَا لَمْ
تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ, فَإِيّاكُمْ وَإِيّاهُمْ, لاَ
يُضِلّونَكُمْ وَلاَ يَفْتِنُونَكُم}. وفي صحيح مسلم أيضا عن عمرو بن العاص رضي
الله عنه قال: {إِنّ فِي الْبَحْرِ شَيَاطِينَ مَسْجُونَةً أَوْثَقَهَا
سُلَيْمَانُ بنُ دَاوُدَ. يُوشِكُ أَنْ تَخْرُجَ فَتَقْرَأَ عَلَى النّاسِ
قُرْآنا}. قال النووي رحمه الله تعالى: معناه أن تقرأ شيئا ليس بقرآن وتقول إنه
قرآن لتغربه عوام الناس. وروى الطبراني عن أبي الدرداء رضي الله عنه: {إن أخوف ما
أخاف على أمتي الأئمة المضلون}. وروى الإمام أحمد عن عمر رضي الله عنه: {إن أخوف
ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان}. قال المناوي رحمه الله تعالى: أي كثير
علم اللسان جاهل القلب والعمل, اتخذ العلم حرفة يتأكل بها ذا هيبة وأبهة يتعزز, يدعو الناس إلى اللّه تعالى ويفر هو منه. وروى الطبراني عن علي رضي
الله عنه: {إني لا أتخوف على أمتي مؤمنا ولا مشركا, فأما المؤمن فيحجزه إيمانه,
وأما المشرك فيقمعه كفره, ولكن أتخوف عليكم منافقا عالم اللسان يقول ما تعرفون
ويعمل ما تنكرون}. وعن زياد بن حدير رحمه الله تعالى قال: قال لي عمر بن الخطاب
رضي الله عنه: {هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا, قال: يهدمه زلة العالم, وجدال
المنافق بالكتاب, وحكم الأئمة المضلين}.
(فصل)
في ذكر الأحاديث والآثار الواردات في رفع العلم ونزول الجهل وإنذار النبي صلى الله
عليه وسلم صلى الله عليه وسلم, وإعلامه بأن الآخر شر, وأن أمته ستتبع المحدثات من
الأمور والبدع والأهواء ,
وأن
الدين إنما يبقى عند خاصة من الناس.
قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى في فتح الباري: {يقبض الله العلماء, ويقبض
العلم معهم, فتنشأ أحداث ينزو بعضهم على بعض نزو العير على العير, ويكون الشيخ
فيهم مستضعفا}.
وروى أبو أمامة رضي الله عنه لما كان حجة الوداع قام رسول الله صلى الله عليه وسلم
على جمل آدم فقال: {يا أيها الناس خذوا من العلم قبل أن يقبض, وقبل أن يرفع من
الأرض, ألا إن ذهاب العلم ذهاب حملته. فسأله أعرابي فقال: يا رسول الله كيف يرفع
العلم منا وبين أظهرنا المصاحف, وقد تعلمنا ما فيها وعلمناها أبناءنا ونساءنا
وخدمنا, فرفع إليه رأسه وهو مغضب, فقال: وهذه اليهود والنصارى بين أظهرهم المصاحف
ولم يتعلقوا منها بحرف فيما جاءهم به أنبياؤهم}.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه قال: {لا يزال الناس مشتملين بخير ما أتاهم العلم من
أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأكابرهم, فإذا أتاهم العلم من قبل أصاغرهم وتفرقت
أهواؤهم هلكوا}.
وروى البختاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: {لاتقوم الساعة حتى تأخذ أمتي
بأخذ القرون قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع, فقيل: يا رسول الله كفارس والروم؟
قال: ومن الناس إلا هم}.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه,
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لتتبعن سَنَنَ من كان قبلكم, شبراً بشبر
وذراعاً بذراع, حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم. قلنا: يا رسول الله, اليهود
والنصارى؟ قال: فمن}.
وروى الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن
أول هذه الأمة خيارهم, و آخرها شرارهم, مختلفين متفرقين, فمن كان يؤمن بالله
واليوم الآخر فلتأته منيته وهو يأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه}.
وعن هشام بن عروة رحمه الله تعالى أنه سمع أباه يقول: {لم يزل أمر بني إسرائيل
مستقيما حتى حدث فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم, فأحدثوا فيهم القول بالرأي,
وأضلوا بني إسرائيل. قال: وكان أبي يقول: السنن السنن فإن السنن قوام الدين}
وروى ابن وهب عن ابن شهاب الزهري رحمه الله تعالى قال: {إن اليهود والنصارى إنما
انسلخوا من العلم الذي كان بأيديهم
حين استقلوا الرأي وأخذوا فيه}.
وروى البخاري في صحيحه عن عروة رضي اللع عنه قال: {حَجَّ عَلَيْنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عَمْرٍو فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْزِعُ الْعِلْمَ بَعْدَ أَنْ
أَعْطَاهُمُوهُ انْتِزَاعًا, وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ
الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ, فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ
بِرَأْيِهِمْ فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ, فَحَدَّثْتُ بِهِ عَائِشَةَ رضي الله
عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو حَجَّ بَعْدُ, فَقَالَتْ يَا ابْنَ أُخْتِي انْطَلِقْ إِلَى
عَبْدِ اللَّهِ فَاسْتَثْبِتْ لِي مِنْهُ الَّذِي حَدَّثْتَنِي عَنْهُ, فَجِئْتُهُ
فَسَأَلْتُهُ, فَحَدَّثَنِي بِهِ كَنَحْوِ مَا
حَدَّثَنِي, فَأَتَيْتُ عَائِشَةَ فَأَخْبَرْتُهَا, فَقَالَتْ وَاللَّهِ لَقَدْ
حَفِظَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو}.
وفي فتح الباري عن مسروق عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: {لا يأتي عليكم زمان إلا
وهو أشر مما كان قبله, أما إني لا أعني أميرا خيرا من أمير, ولا عاما خيرا من عام, ولكن علماؤكم وفقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفا, ثم يجيئ قوم
يفتون في الأمور برأيهم فيثلمون الإسلام ويهدمونه}.
(فصل) في بيان إثم من دعا إلى
ضلالة أو سن سنة سيئة
قال الله سبحانه وتعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ}.
وأخرج أبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه
عليه وسلم: {مَنْ دَعا إلى هُدىً كانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلَ أُجُورِ مَنْ
تَبِعَهُ لا يَنْقُصُ ذلك مِنْ أُجُورِهِمْ شَيئا. وَمَنْ دَعا إلى ضَلالَةٍ كَانَ
عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثامِ مَنْ تَبِعَهُ لا يَنْقُصُ ذلكَ مِنْ
آثامِهِمْ شَيْئاً}.
وأخرج مسلم من رواية عبد الرحمن بن هلال عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه
في حديث طويل, قال فيه:
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: {مَنْ سَنّ فِي الإِسْلاَمِ سُنّةً
حَسَنَةً, فَلَهُ أَجْرُهَا, وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ
أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا. وَمَنْ سَنّ فِي الإِسْلاَمِ سُنّةً
سَيّئَةً, كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ.
مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيئًا}.
قال مجاهد رحمه الله تعالى في تفسير الآية المذكورة: حملهم ذنوب أنفسهم وذنوب من
أطاعهم, ولا يخفف ذلك عمن أطاعهم [من العذاب] شيئا.
وروى الترمذي عن عمرو بن عوف رضي الله عنه أَنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قالَ:
{مَنْ أَحْيَا سُنّةً مِنْ سُنّتِي قَدْ أُمِيتَتْ بَعْدِي كَانَ لَهُ مِنَ
الأَجْرِ مِثْلُ منْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقِصَ ذَلِكَ مِنْ
أَجُورِهِمْ شَيْئاً, وَمَنْ ابْتَدَعَ بِدْعَةَ ضَلاَلَةٍ لاَ ترضى الله
وَرَسُولُهُ كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لاَ ينْقِصُ ذَلِكَ
مِنْ أَوْزَار النّاسِ شَيْئاً}.
وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه
وسلم: {المُتَمَسِّكُ بِسُنَّتِيْ عِنْدَ فَسَاِد أُمَّتِيْ لَهُ أَجْرُ مِائَةِ
شَهِيْدٍ}.
(فصل)
في بيان افتراق أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ثلاث
وسبعين
فرقة, وبيان أصول الفرق الضالة وبيان الفرقة
الناجية
وهم أهل السنة والجماعة.
روى أبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: {افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً,
وَتَفَرّقَتِ النّصَارَى عَلَى اثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً, وَتَفَرّقَتِ
أُمّتِي علَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً, كلها في النار إلا واحدة, قالوا: ومن
هم يا رسول الله؟ قال: هم الذي أنا عليه وأصحابي}.
قال الشهاب الخفاجي رحمه الله تعالى في نسيم الرياض: والفرقة الناجية هم أهل السنة
والجماعة. وفي حاشية الشنواني على مختصر ابن أبي جمرة: هم أبو الحسن الأشعري
وجماعته أهل السنة وأئمة العلماء, لأن الله تعالى جعلهم حجة على خلقه, وإليهم تفزع
العامة في دينهم, وهم المعنيون بقوله صلى الله عليه وسلم: {إن الله لا يجمع أمتي
على ضلالة}.
قال الإمام أبو منصور بن طاهر التميمي في شرح هذا الحديث: قد علم أصحاب هذه
المقالات أنه صلى الله عليه وسلم
لم يرد بالفرق المذمومة المختلفين في فروع الفقه من أبواب الحلال والحرام, وإنما
قصد بالذم من خالف أهل الحق في أصول التوحيد, وفي تقدير الخير والشر, وفي شروط
النبوة والرسالة, وفي موالاة الصحابة وما جرى مجرى هذه الأبواب, لأن المختلفين
فيها قد كفر بعضهم بعضا بخلاف النوع الأول, فإنهم اختلفوا فيه من غير تكفير ولا
تفسيق للمخالف فيه, فيرجع تأويل الحديث في افتراق الأمة إلى هذا النوع من الإختلاف.
وقد حدث في آخر أيام الصحابة خلاف القدرية من معبد الجهني وأتباعه, وتبرأ منهم
المتأخرون من الصحابة كعبد الله بن عمر وجابر وأنس ونحوهم رضي الله عنهم أجمعين.
ثم حدث الخلاف بعد ذلك شيئا سيئا إلى أن تكاملت الفرق الضالة اثنين وسبعين فرقة,
والثالثة والسبعون هم أهل السنة والجماعة, وهم الفرق الناجية. فإن قيل: هذه الفرق
معروفة؟ فالجواب: إنا نعرف الإفتراق وأصول الفرق, وأن كل طائفة من الفرق انقسمت إلى
فرق وإن لم نحط بأسماء تلك الفرق ومذاهبها.
وأصول الفرق الحرورية, والقدرية, والجهمية, والمرجئة, والرافضة, والجبرية. وقد قال
بعض أهل العلم رحمهم الله تعالى: أصول الفرق الضالة هذه الست, وقد انقسمت كل فرقة
منها اثنتي عشرة فرقة فصارت إلى اثنتين وسبعين فرقة. قال ابن رسلان رحمه الله
تعالى: قيل إن تفصيلها عشرون, منهم روافض, وعشرون منهم خوارج, وعشرون قدرية, وسبعة
مرجئة, وفرقة نجارية, وهم أكثر من عشر فرق ولكن يعدون واحدة, وفرقة حرورية, وفرقة
جهمية, وثلاث فرق كرامية, فهذه اثنتان وسبعون فرقة.
(فصل)
في ذكر أمارات اقتراب الساعة
وهي كثيرة, منها عدم المساعد والمعاون على الدين, وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
{يَأَتِي عَلَى النّاسِ زَمَانٌ الصّابِرُ عَلَى دِينِهِ كالقَابِضِ عَلَى
الْجَمْر}. رواه الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
ومنها: {يكون في آخر الزمان عباد جهال
وقراء فسقة}. رواه أبو نعيم في الحلية والحاكم في المستدرك عن أنس رضي الله عنه
أيضا.
ومنها {لاَ تَقُومُ السّاعةُ حَتّى يَتَبَاهَى النّاسُ في المَسَاجِد}. رواه
الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه عن أنس رضي الله عنه.
ومنها {قطيعة الرحم, وتخوين الأمين وائتمان الخائن} رواه الطبراني في الأوسط عن
أنس بن مالك رضي الله عنه أيضا.
ومنها {انتفاخ الأهلة, وأن يرى الهلال قبلا [بفتحتين أي سلعة ما يطلع] فيقال:
لليلتين}. رواه الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه.
ومنها {يذهب الصالحون الأول فالأول, وتبقى حثالة كحثالة الشعير أو التمر}. رواه
الإمام أحمد والبخاري.
ومنها {لا تقوم الساعة حتى يكون الزهد رواية, والورع تصنعا}. رواه أبو نعيم في
الحلية.
ومنها {أن يكون الولد غيظا والمطر قيظا وتفيض اللئام فيضا}. رواه الطبراني عن ابن
مسعود رضي الله عنه.
ومنها {لا تقوم الساعة حتى يسود كل قبيلة منافقوها, وكان زعيم القوم أرذلهم, وساد
القبيلة فاسقهم}. رواه الطبراني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه, والترمذي عن
أبي هريرة رضي الله عنه.
ومنها {أن تزخرف المحاريب, وأن تخرب القلوب} رواه الطبراني عن ابن مسعود رضي الله
عنه.
ومنها {فشو التجارة حتى تعين المرأة زوجها على التجارة, وقطع الأرحام, وفشو القلم,
وظهور الشهادات بالزور}. رواه الإمام أحمد والبخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه .
وفشو التجارة كناية عن كثرة الكتبة وقبة العلماء, يعني يكتفون بتعلم الخط ليخالطوا
الحكام.
ومنها {أن يتخذ الأمانة مغنماً, والصدقة مغرماً, ويتعلم العلم لغير دين}. رواه
الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه
ومنها {إذَا أطاعَ الرجُلُ امْرَاَتَهُ وَعَقَّ أُمَّهُ, وَأدْنَى صَديْقَهُ وَ
أَقصى أَبَاهُ, وارْتَفَعَتْ الأَصْوَاتُ في المسَاجِدِ} رواه الترمذي عن أبي
هريرة رضي الله عنه أيضا.
ومنها {إذاَ ظَهَرَتْ القَيْنَاتُ وَالمَعَازِفُ, وَشُرِبَتِ الْخُمُور ُ,
وَلَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الأُمّةِ أَوّلَهَا} رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله
عنه أيضا.
ومنها {إن أيام الدجال سنين خداعة, يكذب فيها الصادق, ويصدق فيها
الكاذب, ويخون فيها الأمين, ويؤتمن فيها الخائن, ويتكلم فيها الرويبضة. قيل: وما
الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة}. رواه الإما أحمد والبزار عن
أنس بن مالك رضي الله عنه.
ومنها {لا تقوم الساعة حتى تروا أمورا عظاما لم تحدثوا بها أنفسكم, يتفاقم شأنها
في أنفسكم, وتسألون هل كان نبيكم ذكر لكم منها ذكرا, وحتى تروا الجبال تزول عن
أماكنها} رواه الإمام أحمد والطبراني عن سمرة بن جندب رضي الله عنه.
ومنها {إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِروْ السَّاعَة}.
رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ومنها {لاَ تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ عَلَى الْقَبْرِ,
فَيَتَمَرَّغَ عَلَيْهِ وَيَقُولَ: يَالَيْتَنِي كُنْتُ مَكَانَ صَاحبِ هذَا
الْقَبْرِ} رواه مسلم عن أبي هريرة أيضا.
ومنها {لا تقوم الساعة حتى يتسافد الناس تسافد البهائم في الطرق} رواه الطبراني عن
ابن عمر رضي الله عنهما.
ومنها {لاَتفنى هذه الأمة حتى يقوم الرجل إلى المرأة فيفترشها في الطريق فيكون
خيارهم يومئذ من يقول: لو واريناها وراء هذا الحائط} رواه أبو يعلى عن أبي هريرة.
ومنها {لا تقوم الساعة حتى توجد المرأة نهارا تنكح [أي تجامع] وسط الطريق, لا ينكر
ذلك, فيكون أمثلهم يومئذ الذي يقول: لو نحيتها عن الطريق قليلا, فذلك فيهم مثل أبي
بكر وعمر فيكم} رواه الحاكم أبو عبد الله عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ومنها ما روى الطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه {وحتى تمر المرأة على القوم, فيقوم أحدهم, فيرفع بذيلها كما يرفع ذنب النعجة, فيقول بعضهم: ألا
واريتها وراء الحائط, فهو يومئذ فيهم مثل أبي بكر وعمر فيكم}.
ومنها {لا تقوم الساعة حتى تناكر القلوب, وتختلف الأقاويل, ويختلف الإخوان من الأب
والأم في الدين} رواه الديلمي عن حذيفة رضي الله عنه
ومنها {لا تقوم الساعة حتى تتخذ المساجد قناطر, فلا يسجد لله فيها , وحتى يبعث الغلام الشيخ بريدا بين الأفقين,
وحتى يبلغ التاجر بين الأفقين فلا يجد ربحا} رواه الطبراني عن ابن مسعود رضي الله
عنه. وهو كناية عن عدم الرغبة في الصلاة, وعدم توقير الصغير الكبيرَ, وعدم البركة
في التجارة لغلبة الكذب والغش على التجار.
ومنها {يأتي على الناس زمان همتهم بطونهم, وشرفهم متاعهم, وقبلتهم نساؤهم, ودينهم
دارهمهم ودنانيرهم, أولئك شر الخليق لا خلاق لهم عند الله}.
ومنها {لا تذهب الأيام والليالي حتى يخلق القرآن في صدور أقوام من هذه الأمة كما
يخلق الثياب, ويكون ما سواه أعجب لهم, ويكون أمرهم طمعا كله, لا يخالطه خوف, إن
قصر في حق الله تعالى منته نفسه الأماني, وإن تجاوز إلى ما نهى الله عنه, قال:
أرجو أن يتجاوز الله عني}.
ومنها {يَدْرُسُ الإِسْلاَمُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبَ. حَتَّى لاَيُدْرِي
مَاصِيَامٌ وَلاَ صلاةٌ وَلاَ نُسُكٌ. وَلاَ صَدَقَةٌ. وَيَبْقَى طَوَائِف مِنَ
النَّاسِ, الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْعَجُوزُ الكبيرة. وَ يَقُولُونَ: أَدْرَكْنَا
آبَاءَنَا عَلَى هذِهِ الْكَلِمَةِ: لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ. فَنَحْنُ نَقُولُهَا}
رواه ابن ماجه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.
ومنها {لاَ تَقُوْمُ السَاعَةُ حَتَّى لاَ يُقَالَ فِيْ الأَرْضِ لاَ إِلهَ إلا
الله}
ومنها {لاَ تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والبخل, ويخون الأمين, ويؤتمن الخائن,
وتهلك الوعول, ويظهر التحوت. قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما التحوت؟
وما الوعول؟ قال: الوعول: وجوه الناس وأشرافهم, والتحوت: الذين كانوا تحت أقدام
الناس}. رواه الطبراني عن أبي هريرة رضي
الله عنه.
ومنها {لاَ تقوم الساعة حتى تخرج سبعون كذابا, قلت: وما آيتهم؟ قال: يأتونكم بسنة
لم تكونوا عليها, يغيرون بها سنتكم, فإذا رأيتموهم فاجتنبوهم}. رواه البخاري عن
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنها.
ومنها {إذا ظهر القول, وخزن العمل, وائتلفت الألسن, واختلفت القلوب, وقطع كل ذي
رحم رحمه, فعند ذلك “لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم” }. رواه الإمام أحمد وعبد
بن حميد عن سلمان الفارسي رضي الله عنه.
ومنها {إذا الناس أظهروا العلم, وضيعوا العمل, وتحابوا بالألسن, وتباغضوا بالقلوب,
وتقاطعوا في الأرحام, لعنهم الله عند ذلك “فأصمهم وأعمى أبصارهم”}. رواه ابن أبي
الدنيا عن الحسن رضي الله عنه
قال البيهقي وغيرهم رحمهم الله تعالى: الأمارات منها صغار, وقد مضى أكثرها. ومنها
كبار ستأتي.
ولنختم الأحاديث المذكورات بما رواه مسلم في صحيحه عن حذيفة بن أسيد الغفاري رضي
الله عنه قال: {اطّلَعَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْنَا وَنَحْنُ
نَتَذَاكَرُ. فَقَالَ: “مَا تَذَاكَرُونَ؟”, قَالُوا: نَذْكُرُ السّاعَةَ. قَالَ:
“إِنّهَا لَنْ تَقُومَ حَتّىَ تَرَوْنَ قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ”. فَذَكَرَ
الدّخَانَ, وَالدّجّالَ, وَالدّابّةَ, وَطُلُوعَ الشّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا,
وَنُزُولَ عِيسَىَ ابْنِ مَرْيَمَ صلى الله عليه وسلم, وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ,
وَثَلاَثَةَ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ, وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ, وَخَسْفٌ
بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ. وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ الْيَمَنِ, تَطْرُدُ
النّاسَ إِلَىَ مَحْشَرِهِمْ}.
أما الدخان فقد ذكر العلامة الخازن في تفسيره فقال: قال حذيفة رضي الله عنه يا
رسول الله ما الخان؟ فتلا هذه الآية: { يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ
مُبِينٍ}, يملأ ما بين المشرق والمغرب, يمكث أربعين يوما وليلة. أما المؤمن فيصيبه
منه كهيئة الزكام, وأما الكافر فهو كالسكران, يخرج من منخريه وأذنيه ودبره.
وأما الدجال ففي صحيح مسلم عن هشام بن عروة رضي الله عنه قال: {مَا بَيْنَ خَلْقِ
آدَمَ إِلَىَ قِيَامِ السّاعَةِ خَلْقٌ أَكْبَرُ مِنَ الدّجّال}, أكبر فتنة. وفي
صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال,
فقال: {أَنَّهُ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَىَ, كَأَنّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ
طَافِيَة}. وفيهما عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
{مَا مِنْ نَبِيّ إِلاّ وَقَدْ أَنْذَرَ أُمّتَهُ الأَعْوَرَ الْكَذّابَ. أَلاَ
إِنّهُ أَعْوَرُ, وَإِنّ رَبّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ. مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنِيْهِ
كافر}.
وروى البغوي رحمه الله تعالى بسنده عن أسماء بنت يزيد الأنصارية رضي الله عنها:
{أن من أكبر فتنته أنه يأتى الأعرابي فيقول: أريت إن أحييت إبلك, ألست تعلم أني
ربك؟, فيقول: بلى, فيتمثل له الشيطان نحو إبله كأحسن ما تكون ضروعا وأعظمه أسنمة.
ويأتي الرجل قد مات أخوه ومات أبوه فيقول: أرأيت إن أحييت أخاك وأباك, ألست تعلم
أني ربك؟ فيقول: بلى, فيتمثل له الشيطان نحو أخيه و أبيه}.
وعن
المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: {مَا سَأَلَ أَحَدٌ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الدَّجَّالِ مَا سَأَلْتُهُ, وَإِنَّهُ قَالَ
لِي: مَا يَضُرُّكَ؟ قُلْتُ إنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ مَعَهُ جَبَلَ خُبْزٍ
وَنَهَرَ مَاءٍ. قَالَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِك}. وروى الترمذي عن
أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الدّجّالُ
يخرُجُ بِأَرْضٍ المَشْرِقِ, يُقَالُ لهَا خُراسَانَ, يتْبَعُهُ أَقْوَامٌ كأَنّ
وُجُوهَهُمْ المَجَانّ المُطْرَقةَُ}. وعن أنس رضي الله عنه قال: قالَ رَسُولَ
اللّهِ صلى الله عليه وسلم: {يَتْبَعُ الدّجّالَ, مِنْ يَهُودِ أَصْبَهَانَ,
سَبْعُونَ أَلفاً, عَلَيْهِمُ الطّيَالِسَةُ}.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: قال القاضي عياض: هذه الأحاديث التي وردت في
قصة الدجال حجة لمذهب أهل الحق في صحة وجوده, وأنه شخص بعينه ابتلى الله به عباده
فأقدره على أشياء من المقدورات من إحياء الميت الذي يقتله, ومن ظهور زهرة الدنيا
والخصب معه, وجنته وناره, واتباع كنوز الأرض له, وأمره السماء أن تمطر فتمطر,
والأرض أن تنبت فتنبت, فيقع كل ذلك بقدرة الله تعالى ومشيئته, ثم يعجزه الله تعالى
بعد ذلك, فلا يقدر على قتل ذلك الرجل ولا غيره, ويبطل أمره, ويقتله عيسى بن مريم
عليه السلام, ويثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت, هذا مذهب أهل السنة وجميع المحدثين والفقهاء, خلافاً لمن أنكره
وأبطل أمره من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة.
وأما الدابة فقد ذكر العلامة الخازن في تفسيره بإسناد الثعلبي عن حذيفة بن اليمان
رضي الله عنه, ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة, قلت يا رسول الله, من أين
تخرج؟ {قال: من أعظم المساجد حرمة على الله, فبينما عيسى يطوف بالبيت ومعه
المسلمون, إذ تضطرب الأرض, وينشق الصفا مما يلي المسعى, وتخرج الدابة من الصفا,
أول ما يخرج منها رأسها ملمعة ذات وبر وريش, لم يدركها طالب, ولن يفوتها هارب, تسم
الناس مؤمنا وكافرا, أما المؤمن فتترك وجهه كأنه كوكب دري, وتكتب بين عينيه مؤمن,
وأما الكفار فتنكت بين عينيه نكتة سوداء, وتكتب بين عينيه كافر}. وعن عبد الله بن
عمر رضي الله عنه قال: {تخرج الدابة من شعب جياد, فيمس رأسها السحاب, ورجلاها في
الأرض}.
وأما طلوع الشمس من مغربها ففي كتاب بدء الخلق من صحيح البخاري عن أبي ذر رضي الله
عنه قال: قَالَ لي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِيْنَ غَرَبَتْ
الشَّمْسُ: {تَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ,
قَالَ: فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تِسْجُدَ تَحْتَ العَرْشِ, فتَسْتَأْذِنُ
فَيُؤْذَنُ لَهَا, وَيُوْ شِكُ أَنْ تَسْجُدَ فَلاَ يُقْبَلَ منها, وَتَسْتَأْذِنُ فَلاَ يُؤْذَنُ لَهَا,
ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ, فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا. فذلك قوله تعالى:
{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ
الْعَلِيمِ}. قال في فتح الباري: يحتمل أن يكون المراد بالسجود سجود من هو موكل
بها من الملائكة, أو تسجد بصورة الحال, فيكون عبارة عن الزيادة في الانقياد
والخضوع في ذلك الحين. وقال النووي رحمه الله تعالى: وأما سجود الشمس فهو تمييز
وإدراك يخلقه الله تعالى فيها. والله أعلم.
وأما نزول عيسى عليه السلام وخروج يأجوج ومأجوج ففي صحيح مسلم عن النواس بن سمعان
رضي الله عنه قال: {ذَكَرَ رَسُولُ اللّهِ
صلى الله عليه وسلم الدّجّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ, فَخَفّضَ فِيهِ وَرَفّعَ حَتّىَ
ظَنَنّاهُ فِي طَائِفَةِ النّخْلِ. فَلَمّا رُحْنَا إِلَيْهِ عَرَفَ ذَلِكَ فِينَا,
فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟, قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللّهِ ذَكَرْتَ الدّجّالَ غَداةٍ,
فَخَفّضْتَ فِيهِ وَرَفّعْتَ حَتّىَ ظَنَنّاهُ فِي طَائِفَةِ النّخْلِ, فَقَالَ:
غَيْرُ الدّجّالِ أَخْوَفُنِي عَلَيْكُمْ, إِنْ يَخْرُجْ, وَأَنَا فِيكُمْ,
فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ, وَإِنّ يَخْرُجْ, وَلَسْتُ فِيكُمْ, فَامْرُؤٌ
حَجِيجُ نَفْسِه ِ, وَاللّهُ خَلِيفَتِي عَلَىَ كُلّ مُسْلِمٍ. إِنّهُ شَابّ
قَطَطٌ, عَيْنُهُ عنبة طَافِئَةٌ, كَأَنّي أُشَبّهُهُ بِعَبْدِ الْعُزّىَ بْنِ
قَطَنٍ, فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ
الْكَهْفِ, إِنّهُ خَارِجٌ خَلّةً بَيْنَ الشّامِ وَالْعِرَاقِ, فَعَاثَ يَمِيناً
وَعَاثَ شِمَالاً. يَا عِبَادَ اللّهِ فَاثْبُتُوا, قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللّهِ
وَمَا لَبْثُهُ فِي الأَرْضِ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ يَوْماً. يَوْمٌ كَسَنَةٍ,
وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ, وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ. وَسَائِرُ أَيّامِهِ كَأَيّامِكُمْ,
قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللّهِ فَذَلِكَ الْيَوْمُ الّذِي كَسَنَةٍ, أَتَكْفِينَا
فِيهِ صَلاَةُ يَوْمٍ؟ قَالَ: لاَ, اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ, قُلْنَا: يَا رَسُولَ
اللّهِ وَمَا إِسْرَاعُهُ فِي الأَرْضِ؟ قَالَ: كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ
الرّيحُ, فَيَأْتِي عَلَىَ الْقَوْمِ فَيَدْعُوهُمْ, فَيُؤْمِنُونَ بِهِ
وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ, فَيَأْمُرُ السّمَاءَ فَتُمْطِرُ, وَالأَرْضَ فَتُنْبِتُ,
فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ, أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُراً, وَأَسْبَغَهُ
ضُرُوعاً, وَأَمَدّهُ خَوَاصِرَ, ثُمّ يَأْتِي الْقَوْمَ, فَيَدْعُوهُمْ
فَيَرُدّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ, فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ, فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ
لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ, وَيَمُرّ بِالْخَرِبَةِ
فَيَقُولُ لَهَا: أَخْرِجِي كُنُوزَكِ. فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ
النّحْلِ, ثُمّ يَدْعُو رَجُلاً مُمْتَلِئاً شَبَاباً, فَيَضْرِبُهُ بِالسّيْفِ
فَيَقْطَعُهُ جَزِلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ, ثُمّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ
وَيَتَهَلّلُ وَجْهُهُ ويَضْحَكُ, فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللّهُ
الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ عليه السلام, فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ
الْبَيْضَاءِ شَرْقِيّ دِمَشْقَ. بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ. وَاضِعاً كَفّيْهِ
عَلَىَ أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِن, إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطرَ, وَإِذَا رَفَعَهُ
تَحَدّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللّؤْلُؤِ, فَلاَ يَحِلّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ
نَفَسِهِ إِلاّ مَاتَ, وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ,
فَيَطْلُبُهُ حَتّىَ يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدَ, فَيَقْتُلُهُ, ثُمّ يَأْتِي عِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ إلى قَوْمٍ قَدْ عَصَمَهُمُ اللّهُ مِنْهُ, فَيَمْسَحُ عَنْ
وُجُوهِهِمْ وَيُحَدّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِي الْجَنّةِ, فَبَيْنَمَا هُوَ
كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَىَ اللّهُ إِلَىَ عِيسَىَ عليه السلام: إِنّي قَدْ أَخْرَجْتُ
عِبَاداً لِي, لاَ يَدَانِ لأَحَدٍ بِقِتالِهِمْ, فَحَرّزْ عِبَادِي إِلَىَ
الطّورِ. وَيَبْعَثُ اللّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِنْ كُلّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ.
فَيَمُرّ أَوَائِلُهُمْ عَلَىَ بُحَيْرَةِ طَبَرِيّةَ, فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا,
وَيَمُرّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ: لَقَدْ كَانَ بِهَا مَرّةً مَاءٌ, وَيُحْصَرُ
نَبِيّ اللّهِ عِيسَىَ عليه السلام وَأَصْحَابُهُ حَتّىَ يَكُونَ رَأْسُ الثّوْرِ
لأَحَدِهِمْ خَيْراً مِنْ مِائَةٍ دِينَارٍ لأَحَدِكُمُ الْيَوْمَ, فَيَرْغَبُ
نَبِيّ اللّهِ عِيسَىَ وَأَصْحَابُهُ فَيُرْسِلُ اللّهُ عَلَيْهِمُ النّغَفَ فِي
رِقَابِهِمْ, فَيُصْبِحُونَ فَرْسَىَ كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ, ثُمّ يَهْبِطُ
نَبِيّ اللّهِ عِيسَىَ عليه السلام وَأَصْحَابُهُ إِلَى الأَرْضِ, فَلاَ يَجِدُونَ
فِي الأَرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إِلاّ مَلأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتْنُهُمْ, فَيَرْغَبُ
نَبِيّ اللّهِ عِيسَىَ عليه السلام وَأَصْحَابُهُ إِلَىَ اللّهِ, فَيُرْسِلُ
اللّهُ طَيْراً كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ, فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ
شَاءَ اللّهُ, ثُمّ يُرْسِلُ اللّهُ مَطَراً لاَ يَكُنّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ
وَلاَ وَبَرٍ, فَيَغْسِلُ الأَرْضَ حَتّىَ يَتْرُكَهَا كَالزّلَفَةِ, ثُمّ يُقَالُ
لِلأَرْضِ: أَنْبِتِي ثَمَرَتَكِ, وَرُدّي بَرَكَتَكِ, فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ
الْعِصَابَةُ مِنَ الرّمّانَةِ, وَيَسْتَظِلّونَ بِقِحْفِهَا, وَيُبَارَكُ فِي
الرّسْلِ, حَتّىَ أَنّ اللّقْحَةَ مِنَ الإِبِلِ لَتَكْفِي الْفِئَامَ مِنَ
النّاسِ, وَاللّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ لَتَكْفِي الْقَبِيلَةَ مِنَ النّاسِ
وَاللّقْحَةَ مِنَ الْغَنَمِ لَتَكْفِي الْفَخِذَ مِنَ النّاسِ, فَبَيْنَمَا هُمْ
كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللّهُ رِيحاً طَيّبَةً, فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ,
فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلّ مُؤْمِنٍ وَكُلّ مُسْلِمٍ, وَيَبْقَىَ شِرَارُ النّاسِ,
يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الْحُمُرِ, فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السّاعَةُ}.
وأما النار الخارجة من اليمن فهي الحاشرة للناس كما صرح به في الحديث. قال
العلماء: وأنواع الحشر أربعة, اثنان في الدنيا, أحدهما إجلاؤه عليه الصلاة والسلام اليهود من المدينة إلى الشام, وثانيهما
سوق النار قرب الساعة إلى المحشر الناس وغيرهم من كل حي قبل النفخة الأولى, وهؤلاء
الناس أحياء الكفار. وأما المؤمن فيموتون قبل ذلك بريح لينة. واثنان في الآخرة,
أحدهما جمعهم إلى الموقف بعد إحيائهم, والثاني صرفهم من الموقف إلى الجنة أو النار.
(فصل) في ذكر حديث الموتى في
السماع والكلام, ومعرفته بمن يغسله ومن يحمله ومن يكفنه ومن يدليه في قبره,
والإدراك والحياة وعود الروح إلى الجسد.
أما السماع والكلام فقد رروى البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه
عن النبي صلى الله عليه وسلم
قَالَ: {الْعَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتُوُلِّيَ وَذَهَبَ عَنْهُ
أَصْحَابُهُ حَتَّى إنَّهُ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ
فَأَقْعَدَاهُ فَيَقُولاَنِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ
مُحَمَّدٍ؟, فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ, فَيُقَالُ
انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنْ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنْ
الْجَنَّةِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَرآهُمَا
جَمِيعًا. وَأَمَّا الْكَافِرُ أَوْ الْمُنَافِقُ فَيَقُولُ لاَ أَدْرِي كُنْتُ
أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ, فَيُقَالُ لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ, ثُمَّ
يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ بَيْنَ أُذُنَيْهِ, فَيَصِيحُ صَيْحَةً
يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلاَّ الثَّقَلَيْنِ}.
وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: {إِذَا وُضِعَتْ الْجَنَازَةُ وَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ,
فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي, وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ
قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا أَيْنَ تَذْهَبُونَ بِهَا, يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ
شَيْءٍ إِلاَّ الْإِنْسَانَ, وَلَوْ سَمِعَهُ صَعِقَ}. وروى البخاري أيضا عن الليث
بن سعد, فذكر بمثله, وقال: {قَالَتْ لأهْلِهَا: يَا وَيْلَهَا, وقال: وَلَوْ سَمِعَ الإنْسَانُ
لَصَعِقَ}.
وروى الطبراني في الأوسط عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: {إن الميت يَعْرِفُ من يغسله ويحمله و يكفنه ومن يدليه في حفرته}, وكان
سعيد بن جبير رضي الله عنه يقول: {إن الأموات لتأتيهم أخبار الأحياء؟, فما من أحد
له حميم} أي قريب {إلا ويأتيه خبر أقاربه, فإن كان خيرا سر به وفرح, وإن كان شرا
عبس له وحزن}. وكان ابن منبه رحمه الله تعالى يقول: {إن الله تعالى بنى دارا في
السماء السابعة, يقال لها البيضاء, تجمع فيها أرواح المؤمنين, فإذا مات الميت من
أهل الدنيا تلقته الأرواح فيسألونه عن أخبار الدنيا كما يسأل الغائب أهله إذا قدم
من سفرعليهم} رواه أبو نعيم في الحلية.
وأما الإدراك والحياة وعود الروح إلى الجسد فقد ورد عن البراء بن عازب رضي الله
عنه حديث طويل جامع لأحكام الموتى, وفيه التصريح بعود الروح إلى الجسد. قال
البراء: {خَرَجْنَا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار,
فانتهينا إلى القبر, ولما يلحد, فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله – كأنما على رؤوسنا الطير – فجعل يرفع بصره وينظر إلى السماء, ويخفض بصره وينظر إلى الأرض, ثم
قال: “أعوذ بالله من عذاب القبر”, قالها مرارا, ثم قال: “إن العبد المؤمن إذا كان
في قبل من الآخرة وانقطاع من الدنيا جاءه ملك, فجلس عند رأسه, فيقول: “أخرجي أيتها
النفس المطمئنة إلى مغفرة من الله ورضوان”, فتخرج نفسه وتسيل كما تسيل قطرالسقاء,
وتنزل الملائكة من الجنة, بيض الوجوه, كأن وجوههم الشمس, معهم أكفان من أكفان
الجنة, وحنوط من حنوطها, فيجلسون منه مد البصر, فإذا قبضها الملك لم يدعوها في يده
طرفة عين, فذلك قوله تعالى عز وجل: ” تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا
يُفَرِّطُونَ”. قال: فتخرج نفسه كأطيب ريح وجدت, فتعرج به الملائكة, فلا يأتون على
جند}. وفي رواية: {فلا يزالون يمرون بالأمم السابقة والقرون الخالية كأمثال الجراد
المنتشر بين السماء والأرض إلا قالوا: ما هذه الروح؟, فيقال: فلان بأحب أسمائه حتى
ينتهوا به إلى باب السماء الدنيا, فتفتح له, ويشيعه من كل سماء مقربوها, حتى ينتهي
إلى السماء السابعة, فقول: اكتبوا كتابه في عليين, “وَمَا أَدْرَاكَ مَا
عِلِّيُّونَ. كِتَابٌ مَرْقُومٌ. يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ”, فيكتب كتابه في
عليين, ثم يقال: ردوه إلى الأرض, فإني وعدتهم إني منها خلقناهم, وفيها نعيدهم,
ومنها نخرجهم تارة أخرى, فترد إلى الأرض, وتعاد روحه إلى جسده, فيأتيه ملكان
شديدان الإنتهار, فينتهرانه ويجلسانه, فيقولان: مَنْ رَبُّكَ؟, وَمَا دِيْنُكَ؟
فَيَقُوْلُ: رَبِّيَ اللهُ, ودِيْنْي الإِسْلامُ, فَيَقُوْلاَنِ: فَمَا تَقُوْلُ
فِيْ هَذَا الرَجُلِ الَّذِيْ بُعِثَ فِيْكُمْ؟, فَيَقُوْلُ: هُوَ رَسُوْلُ اللهِ.
فَيَقُوْلاَنِ: وَمَا يُدْرِيْكَ؟ فَيَقُوْلُ: جَاءَنَا بِالبَيِّنَاتِ مِنْ
رَبِّنَا فآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ}. قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلهُ تَعَالى: “يُثَبِّتُ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَفِي الْآخِرَةِ”. قال: {وَيُنَادِى مُنَادٍ مِنَ السَمَاءِ: قَدْ صَدَقَ
عَبْدِيْ. فالبسوه من الجنة, ويفرش منها, ويرى منزله ويفسح له مد بصره, ويمثل له
عمله في صورة رجل حسن الوجه, طيب الريح حسن الثياب, فيقول: أبشر بما أعد الله عز
وجل لك, أبشر برضوان من الله
وجنات فيها نعيم مقيم, فيقول: بشّرك الله بخير, من أنت؟ فوجهك الوجه الذي جاءنا
بخير, فيقول: هذا يومك الذي كنت توعد, والأمر الذي كنت توعد, وأنا عملك الصالح,
فوالله ما علمتك إلا كنت سريعا في طاعة الله, بطيئا عن معصية الله, فجزاك الله
خيرا. فيقول: يا رب أقم الساعة كي أرجع إلى أهلي ومالي. قال: وإن كان فاجرا, فإذا
كان في قبل من الآخرة وانقطاع من الدنيا جاءه ملك, فجلس عند رأسه, فيقول: اخرجي
أيتها النفس الخبيثة, أبشري بسخط الله وغضبه.فتنزل ملائكة سود الوجوه, معهم مسوح,
فإذا قيضها الملك قاموا فلم يدعوها في يده طرفة عين. قال: فتفرق في جسده, فيسخرجها
تقطع معها العروق والعصب, كالسفود الكبير الشعب في الصوف المبلول, فتؤخذ من الملك
فتخرج كأنتن ريح وجدت, فلا تمر على جند بين السماء والأرض إلا قالوا: ما هذه الروح
الخبيث؟ فيقولون: هذا فلان بأسوأ أسمائه حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا, فلا
يفتح له, فيقول: ردوه إلى الأرض, إني وعدتهم أني منها خلقناهم, وفيها نعيدهم,
ومنها نخرجهم تارة أخرى. قال: فيرمي به من السماء, قال: فتلا هذه الآية: “ومن يشرك
بالله فكأنما خر من السماء” الآية. ويعاد إلى الأرض, وتعاد فيه روحه, ويأتيه ملكان
شديدا الإنتهار فينتهرانه ويجلسانه, فيقول: من ربك؟ وما دينك؟, قال: لا أدري, سمعت
الناس يقولون ذلك, فيقول: لا دريتَ, فيضيق قبره حتى تختلف أضلاعه, ويمثل له عمله
في صورة رجل, قبيح الوجه ومنتن الريح, قبيح الثياب, فيقول: أبشر بعذاب من الله
وسخطه, فيقول: من أنت؟ فوَجْهُكَ الوَجْهُ الذي جاء بالشر, فيقول: أنا عملك الخبيث,
والله ما علمتك إلا كنت بطيئا عن طاعة الله, سريعا إلى معصية الله, فيقبض له ملك
أصم أبكم معه مرزبة لو ضربت بها جبل صار ترابا أو رميما, فيضربه ضربة يسمعها
الخلائق إلا الثقلين, ثم تعاد فيه الروح, فيضربه ضربة أخرى}. وهذا الحديث أخرجه
جماعة من الأئمة في مسانيدهم, منهم الإمام أحمد.
وقال إمام الحرمين والفقيه أبو بكر بن العربي والإمام سيف الدين الآمدي: اتفق سلف
الأمة قبل ظهور المخالف, وأكثرهم بعد ظهوره على إثبات أحياء الموتى في قبورهم,
ومسألة الملكين لهم, وإثبات عذاب القبر للمجرمين والكافرين, وقوله تعالى:
{وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} أي حياة المسألة في القبر وحياة الحشر, لأنهما
حياتان عرفوا الله بهما, والحياة الأولى في الدنيا لم يعرفوا الله بها.
ثم اعلم أن ما تضمنه هذا الحديث, من ملك الموت ومنكر ونكير وغيرهم ومنازل الآخرة
من الأمور المتشابهات وصفا, لا طريق لأحد في إدراك شيء من أوصافها بالعقل, فيكون
العبد به مبتلى بنفس الإعتقاد لا غير, وأن أهل السنة اتفقوا على أن الأموات
ينتفعون من سعي الأحياء بأمرين: أحدهما ما تسبب إليه الميت في حياته, والثاني دعاء
المسلمين و استغفارهم له والصدقة والحج عنه. واختلفوا في العبادات البدنية كالصوم
والصلاة وقراءة القرآن والذكر, فذهب جمهور السلف إلى وصولها, وذهب أهل البدع إلى
عدم وصول شيء البتة, لا الدعاء ولا غيره. وقوله مردود بالكتاب والسنة, و استدلاله
بقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} مدفوع بأنه سبحانه
وتعالى لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره, وإنما نفى ملك غير سعيه. و أما سعي غيره فهو ملك لساعيه, فإن شاء أن يبذله لغيره, و إن شاء أن يبقيه لنفسه,
وهو سبحانه وتعالى لم إنه لا ينتفع إلا بما سعى.
و
هذا آخر الكتاب. والله أعلم بالصواب, وإليه المرجع و المآب, وهو حسبي ونعم الوكيل,
ولاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد و على آله
وأصحابه والتابعين وتابع التابعين لهم
بإحسان إلى يوم الدين. والحمد لله رب العالمين.
Terjemah Risalah Ahlussunnah Wal Jama'ah KH Hasyim Asy'ari
Tidak ada komentar:
Posting Komentar